التفت إلىّ وقال لي: دُهشت اليوم وأنا اقرأ سورة الفتح حتى أن الدمع تحجّر في عيني وأنا أقرأ مشهد الرضا الرباني الذي حل بتلك الأجيال التي رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنينَ إِذ يُبايِعونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكينَةَ عَلَيهِم وَأَثابَهُم فَتحًا قَريبًا﴾.
تنهّد قليلاً ثم قال: ما الذي صنعوه حتى رضي الله تعالى عنهم؟ وما الذي علمه في قلوبهم حتى صاروا به إلى مشهد الحياة؟
فقلت له سأعرض لك مشهدين لعلهما يقرّبان لك المسافة: نزل قول الله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَرفَعوا أَصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجهَروا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ أَن تَحبَطَ أَعمالُكُم وَأَنتُم لا تَشعُرونَ﴾.
فقام ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه إلى بيته وحبس نفسه وقعد يبكي يقول أنا جهوري الصوت حبط عملي فأنا من أهل النار!.
وسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حديث (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) فقال: فما نمت ليلة من الليالي بعد ما سمعته من رسول الله إلا ووصيتي عند رأسي! .
آية من كتاب الله تعالى تعبث في مشاعر ثابت بن قيس رضي الله عنه حتى يجهش بالبكاء ويربط نفسه في فناء بيته، وحديث يلزم ابن عمر رضي الله عنها بأن يدوّن وصيته وتبيت معه تحت رأسه كل ليلة!.
ونحن نتخاصم ونتجادل وترتفع أصواتنا ونردد في المسألة قولان وثلاثة وفلان أفتى وآخر له رأي حتى نشرذم ذلك النص ونتخلّص من تبعاته ونلقي به في عرض الطريق جثة لا قيمة له ولا حياة فيه.
وكم مرة قرأنا في المقابل حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في كتابة الوصية من الف وأربع مئة وتسعة وثلاثين سنة وجملة كبيرة منا لم يدوّن حرفاً واحداً في وصيته حتى الآن.