لو سألت هذه الجموع التي تصوم هذا الشهر وتقبل على الله تعالى فيه وتتهافت على إحياء شعيرته: لم تمسكون عند الفجر وتتوقفون عن كل المباحات ولا تمدون أيديكم إلى شيء، وتبقون على هذا المعنى طيلة خمسة عشر ساعة وتنتظرون المغرب وأنتم على الجوع والعطش؟ لقالوا لك:
لأن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
ولو قلت لهم: لم تفطرون عند غروب الشمس بالذات لا تتقدمون على هذا الوقت ولا تتأخرون عنه؟ لقالوا لك لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ).
وإذا كررت عليهم سؤالاً ثالثاً لم تفطرون على التمر بالذات لقالوا لك: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ).
فتأمل هذه المعاني، وانظر كيف أن المؤمن لا يتحرك إلا بالنص الشرعي ولا يخطو خطوة من حياته إلا على أثر من علم الوحي!
من الإنسان لولا هذه الشريعة؟ من هو لولا هذا الوحي الذي ينير له الطريق ويكشف له عن مصالحه في الدارين؟ ليس هذا شأن الوحي معك في شهر رمضان فحسب، بل في كل دقيقة من عمرك وكل شأن من حياتك ستجد بأن الوحي حاضر معك في كل لحظة، وماثل أمامك في كل طريق.
إن المسلم يعلم يقيناً أن أكله وشربه وتعامله مع زوجه وأهل بيته ورحمه ومن حوله من العالمين يجري وفق الوحي لا يتخلّف عن هذه الحقيقة شيء.
حتى حذاءه كيف يلبسها، وكيف يخلعها، وكيف ينام، وماذا يقول حين الاستيقاظ، وكيف يبدأ يومه، وكيف يلبس ثوبه، وكيف يتعامل مع صديقه، وكيف يؤدي عمله، وماذا يقول حين الخروج من بيته، وماذا يقول في الخروج.
كلها قضايا مرتبة محددة في شريعة الله تعالى يؤديها المسلم وهو يشعر أنه في طريق الحياة بطوله ويعرف ما يراد منه في النهايات.
ولذلك فطن العدو اليوم لقضيتك فهو يجهد في كل لحظة على أن يذبل هذا المقوّم الشرعي في نفسك، ويفرغ هذه العلاقة الروحية بينك وبينه حتى يجعلك في النهاية بلا رؤية ومنهج في الحياة وليس لك غاية تود الوصول إليها
فتنبه واقبل على معين هذا الوحي وتمسّك به جاداً وسترى مباهج الحياة في الدارين.