إعذار الآخرين
إعذار الآخرين
كان يعاني من قصر نظره ولبس نظارة لذلك، وبيته يقع بجوار السوق فاحتاج شراء بعض الأشياء فلم يجد نظارته فخرج مستعجلاً، وفي الطريق مر بجملة من المتسوقين لم يكن يرى وجوههم بوضوح فسلّم عليهم وهو مار، ثم عاد إلى بيته وبعد ساعات من عودته دخل أحد أقربائه البيت غاضباً لائماً وهو يقول: كنت في ذات السوق، ولم تسلّم علىّ ولي منك زمن طويل، وإلى أيّ درجة بلغ بك الكبر! ودار نقاش طويل كاد ينتهي إلى هجر وفراق ثم استبانت له الحقيقة فعاد نادماً معتذراً على عجلته وسوء ظنه بأخيه!
ويقول آخر: ركبت القطار والناس في هدوء تام حتى ركب معنا رجل وأبناؤه الثلاثة فتحوّل ذلك الهدوء إلى فوضى، وأخذ أبناء ذلك الرجل يعبثون في كل شيء، حتى أنهم يأخذون الصحف من أيدي القُرّاء، والأب لا يحرّك ساكناً، وكان أحد الركاب يشاهد الموقف وهو يقول في نفسه: أي برود وعدم مبالاة في مثل هذه الشخصية! وتوجّه إليه ناصحاً طالباً منه أن يوقف هذه الفوضى قائلاً: يا أخي ساكت لا توقف فوضى الأبناء! فالتفت إليه قائلاً يا أخي: لا أدري ما أصنع الآن نفضت يدي من قبر أمهم ولا أدري كيف أخبرهم!!
وكم ممن تلقاهم في الطريق، أو تقابلهم في مكان يعيشون ظروفاً بائسة، وأحداثاً مؤلمة ويحتاجون إلى شيء من المواساة أكثر من حاجتهم لسوء ظن! وفي قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) فن من فنون الإعذار، لا تكلّف الناس شيئاً لا يطيقونه، وخذ ما تيسّر من أخلاقهم، وتجاوز عما تراه من تقصير تبلغ غايتك وتصل إلى ما تريد.
دخل ذات مرة الربيع بن سليمان على شيخه الشافعي يزوره من إثر مرض ألم به فقال له: قوّى الله ضعفك، فقال الشافعي: لو قوّى ضعفي لقتلني، قال الربيع: والله ما أردت إلا الخير، فقال له الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني ما أردت إلا الخير. اهـ
ونزع أبو أسحاق الشيرازي عمامته ليتوضأ فجاء لصٌ فأخذها وترك عمامة رديئة مكانها فلبسها إسحاق وهو يقول: لعل الحاجة دفعته إلى أخذها.
مشكلتنا أننا نخرج ونحن نبحث عن الكمال في كل من نقابله، ونتوقع أفضل ما لديه، وننسى أن ثمة ظروف ومشكلات كبرى تواجه كثيرين يحتاجون معها للإغضاء أكثر من حاجتهم إلى سوء ظن.
وما ألطف إغضاء يوسف عليه السلام عن أخطاء إخوانه وإعذاره لهم في نهاية المطاف: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وقد أحال خطأهم قبل ذلك للجهل (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ).
إننا حين نعذر الآخرين عن كل ما نراه منهم نعيش مطمئنين، ونجنّب أنفسنا مساحات من الهم والقلق والتفكير، ونبني جسوراً من الأدب نحمل عليها هموم المتعثرين في طريق الحياة الطويل.