الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد
لا أعلم حياة بهيجة بدون هدف! ولا أرى شيئاً مثيراً في حياة إنسان من غير هدف، وإذا لم تصبح تطارد هدفاً، وتسعى وراء أمنية، وتجهد في بناء غاية، وتمسي على ذات المعنى فمالك وللحياة!
تحديد الهدف نصف المعركة، والنصف الآخر منها العيش من أجل ذلك الهدف.
جاء رمضان ليثير هموم هذه الأماني في نفوسنا، ويبعث فينا الحياة من خلال الأهداف التي نعيش من أجلها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فشهر رمضان ليس شيئاً عارضاً، ولا أمنية باردة، وإنما هدف كبير عظيم في الحياة! وعلى من كل من صامه أن يدرك أنه إذا لم يبلغ هدفه الكبير وأمنيته العظيمة وشجونه المثيرة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وإلا فلا قيمة له في واقعه.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يستثير هذا المعنى في نفوسنا، ويبعث أشواقنا إلى تلك الأماني الكبار ويدفع بنا لإدراك تلك الحقائق قبل فوات الأوان: قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فتأمل هذا الهدف الكبير (غُفر له ما تقدم من ذنبه)، وأسرج خيلك للركوب إليه، وشمّر مع السائرين في الطريق إلى ذات الأماني المثيرة في واقع صاحبها وعند اللقاء تدرك غنائم الحياة.
فرق كبير مهول بين صائم يمسك عن الطعام والشراب وينتظر غروب الشمس لتمام يومه فحسب، وآخر يمسك عن كل شيء رغبة في عناق تلك الأماني المثيرة، والأحداث المرتقبة، وصنائع الحياة العظمى في نفوس أصحابها (لعلم تتقون).
إن الهدف هنا بيّن وواضح، وهو هدف محدد الوقت يبدأ في رمضان وينتهي بعد ثلاثين يوماً، ومن روائعه أن مكافأته تحتف به وتغري بعناقه وكأي مشروع في الأرض يأتي إليه صاحبه دون أن يكون هدفه واضحاً بيّناً لا يمكن أن يحتفل منه في النهاية بشيء! وكم هي المشاريع التي بدأها الإنسان مع نفسه أو في مجتمعه أو على مستوى أمته لمّا يكن يرقب هدفها الكبير في النهاية بشوق تنازل عنها، وتخلّف عن مباهجها، وتركها حتى ماتت في عرض الطريق لم تجد سقاءً كافياً يبلغها أحلامها التي تريد.
إن ختمتك التي تخوض تجربتها في رمضان، أو رحلة تدبرك في كتاب الله تعالى لا يمكن أن تبلغها حتى يكون هدفها واضحاً بيّناً كم تقرأ كل يوم! وفي أي يوم ستختم من الشهر! وماذا تريد أن تتدبّر؟ وكم من آية يومية تريد أن تتدبرها؟ وكيف سيكون تدبرك؟ بل لو أنك تلتفت من حولك أو سألت الذي بجانبك: كم هم الذين يعيشون على حلم ختم القرآن الكريم من زمن طويل ولم تأت النهاية التي يشتاقون إليها من سنوات! وكم من إنسان نصب له مشروعاً عمرياً ويزعم أنه بالغ فيه النهايات ولمّا لم يدوّن له هدفاً يقيس فيه نجاحه ويعرف كم يقطع منه من مسافة يومية لم يصل بعد فيه إلى شيء، وما زال مشروعه في طيات الأوراق لم يستنشق الهواء بعد.
أعظم أهدافك في هذا الشهر (تحقيق التقوى) فاجعل هذا الهدف بين ناظريك وذكّر به نفسك، وألظ به قلبك في كل لحظة، واجعله حادياً لك في كل حين وستعيش مباهجه بإذن الله تعالى في النهايات.
وتحقيق التقوى يأتي من خلال طاعة الله تعالى وأعظم شأنها وأكثرها إلحاحاً في واقعك إقامة الصلاة في وقتها وجماعة لمن تلزمه وعدم التخلّف عنها وتعظيم قدرها من الخشوع والصدق والإقبال على الله تعالى فيها، والعناية براتبتها وسنتها المطلقة قبلية كانت أو بعدية، ومن ثم القيام بكل حق أمرك الله تعالى أن تقيمه، فشأن رمضان فيه كغيره من الشهور إن لم يكن أعظم وأهم. ويأتي تحقيق التقوى من خلال ترك ما حرم الله تعالى سماعاً وكلاماً وأخذاً وعطاءً والابتعاد عن كل ما يمكن أن يوقعك في معصية الله تعالى، ويحول بينك وبين تعظيم الله تعالى، وتأتي التقوى كذلك من تعظيمك لشعائر الله تعالى في قلبك ومشاعرك والقيام بحقوقها قدر وسعك وطاقاتك.
ليس الشأن أن تمسك يومك عن طعام وشراب فذاك شأن يجوزه كل راغب، وإنما الشأن أن تتذلل جوارحك لأوامر الله تعالى، وتتعبد له، وتقف مجلة لحرماته مراعية لأوامره ،آتية من ذلك على غايات الصيام الكبرى (لعلكم تتقون) التقوى أن تتحوّل إلى عبد من عباد الله تعالى لا تقول شيئاً أو تسمع آخر أو تقترف شأناً إلا وفق مراد الله تعالى وتوجيهه وتتحرك في هذه الدائرة لا تخرج من مساحتها مهما كانت الفرص التي تتراءى بين عينيك لحظتها، فإذا ما انطوت أيام شهرك وأنت مرابط على هذه الغاية الكبرى فقد أمسكت بعنان هدفك وبلغت مقصدك الكبير وتحقق لك من الأماني التي لأمثالها تناخ مطايا الناجحين.