كم مرة كنت موقناً أنه لا يمكن أن يأتي جديد في حياتك مهما بلغت الأحداث والظروف التي تواجهها في عرض الطريق، وما زالت هذه القناعة تلازمك حتى جاء رمضان فبدّل هذه القناعات، وغيّر هذه المفاهيم حتى رأيت مالم تكن تتوقعه يوماً في حياتك كلها.
جاء رمضان ليقول لي ولك وللعالمين حتى القناعات التي تؤمنون بها إذا لم يكن لها رصيد من الدليل والتجربة فلن تلبث أن تصمد أمام الحقائق الكبرى في الحياة.
كنت مؤمناً بأنني استنفدت كافة طاقاتي وقدراتي الممكنة في الواقع الذي أعيشه ولم يعد لدى أي جديد صالح للتجربة ففاجأني رمضان أن هذه القناعة مجرد فقاعة لارصيد لها.
كم هي المرات التي حاولنا أن نصوم فيها بعض الأيام تطوعاً؟ وكم مرة عجزنا عن خوض هذه التجربة؟ وكثيرون يشهدون رمضان هذا العام ولم يجربوا مرة أو ربما جربوا ورأوا أن تلك التجربة مجهدة للدرجة التي لا تستحق التكرار مرة أخرى في الحياة.
وها هو رمضان يأتي إلينا ويصوم الواحد منا خمسة عشرة ساعة لا يبالي بطول اليوم ولا يكترث بعدد ساعاته ويمضي لا يلوي عنقاً على كل ما يلقاه من أثر هذا الصوم في الطريق، وعاش الواحد منا مستعلياً على كل الشهوات التي يراها بعينه وترمقها مشاعره، بل استطاع أن يغيّر نظام اليوم كله، ويضفي جديداً لحياته وعاداته ويتأقلم مع الواقع الجديد وكأنه لم يتغيّر شيء في حياته كلها.
بل ربما حتى الذي كان مبتلى بعادة التدخين مثلاً واعتذر مراراً للناصحين أنه لا يمكن أن ينفك عنها ساعة واحدة في يومه استطاع أن يقف في وجه تلك الشهوة زمناً طويلاً دون أن يمد يده إليها أو يحدّث نفسه بها، كل هذا يعطينا يقيناً أننا نملك من القدرات والإمكانات ما نستطيع أن نصنع به واقعاً بهيجاً في حياتنا إذا أردنا، وأن حياتنا كلها وقف على الإرادة.
إن من القواعد المقررة في كتاب الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وكل إنسان لا يمكن أن يصنع جديداً بهيجاً في واقعه حتى يبدأ في بناء القناعات الداخلية أولاً، ويحوّلها فيما بعد إلى قرارات عملية تطبيقية يأتي منها إلى ما يشاء في حياته.
كثير من قراراتنا التي تفشل، وتجاربنا التي تتوقف، ومحاولاتنا التي تكل في منتصف الطريق سببها أننا لم نستثر كوامن الإرادة في نفوسنا من البداية، وأننا نبدأ بفصول التغيير ونفوسنا من الداخل هشة أو غير مقتنعة أو مرتبة على التوقف ولا نصل في النهاية إلى شيء.
إن هذه التجربة الرمضانية تضخ في نفوسنا الأمل أن في إمكاننا صناعة التغيير الذي نريده، وخلق الواقع الذي نشتهي إذا آمنا أننا أهل لكل ذلك، وأننا أقدر على خوض كل تجربة جديدة ونفوسنا مشبعة بالثقة بالله تعالى وبما أودع في تلك النفوس من قدرات وإمكانات، فالذي يترك التدخين مثلاً في نهار رمضان قادر على أن يتركه من حياته بالكلية، ومن رابط على صيام أيام الشهر قادر على أن يرابط على بعض العادات الإيجابية حتى تصلب وتقوى وتصبح مع الأيام جزءاً من حياته مع الأيام.
لنجرّب خوض معركة الطريق، ولنبدأ ساحة التفوّق والإبداع في الساحات الممكنة من واقعنا.
ولنعلم يقيناً أن الخطوات الأولى في التغيير مكلفة ومجهدة ولكنها في ذات الوقت ممكنة إذا صحبتها إرادة فاعلة وقوية ومستعدة للتضحية بكل شيء ممكن مع الأيام.